الأمر الذي أحب أن أنبه إليه: أنه سيكون كل كلامنا في الإيمان بمعنى الدين، فنقول: بم عرف أهل السنة والجماعة الإيمان؟
المتأمل لكتب السلف مثل كتاب الإيمان للإمام أحمد، وكتاب اللالكائي، وكتاب السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب السنة لـابن أبي عاصم يجدهم يقولون: "اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل"، وهذا هو تعريف السلف للإيمان كما ذكر ذلك الإمام أحمد وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي في عقائدهم ونصوا عليه، وقال الإمام البخاري رحمه الله: "رويت عن أكثر من ألف شيخ من أهل العلم، ولم أرو إلا عمن يقول: الإيمان قول وعمل"، فهؤلاء ألف شيخ لقيهم الإمام البخاري، وكلهم يعتقد أن الإيمان قول وعمل، فهناك إذن إجماع، والإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله نقل -كما في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية- أكثر من مائتي عالم من علماء التابعين وأتباع التابعين في الكوفة وما حولها؛ اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وكل من كتب في العقيدة يذكر ذلك.
وذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله أن هذا مذهب الإمام الشافعي الذي ذكره في كتابه الأم في باب النية، وذكر هناك أن الإجماع منعقد عند السلف على أن الإيمان قول وعمل، وقول السلف أن الإيمان قول وعمل لا يعني أنهم أغفلوا عمل القلب، ولكن مقصود السلف من قولهم: (الإيمان قول وعمل) أن القول قولان: قول اللسان وقول القلب، والعمل عملان: عمل القلب وعمل الجوارح؛ فهذه أربع يستحيل أن تجد شعبة من شعب الإيمان إلا وهي داخلة فيها، فإن قال: لا إله إلا الله أو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، فهذا من قول اللسان، وإن كان خائفاً، خاشعاً، متقياً، مصدقاً، راغباً، راهباً، متوكلاً، صابراً، موقناً؛ فهذا من عمل القلب، وإن كان مقراً ممتثلاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، معتقداً أنه حق؛ فهذا قول القلب.
ولا يمكن أن يخرج عمل من أعمال الجوارح عما تقدم.
والصلاة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] نجد الإيمان الذي هو الدين موجوداً فيها، فالصلاة قول وعمل، فهي أعمال ظاهرة، وقول باللسان، وقول بالقلب الذي هو النية والامتثال، وعمل بالقلب الذي هو الخشوع والطمأنينة.
وفي تعريف الإيمان مسألة يلزم التنبيه إليها وهي: أنه ليس مقصود السلف الذين قالوا: "الإيمان قول وعمل ونية"، أن كلمة قول وعمل تعني مجرد قول اللسان وعمل الجوارح فحسب، ولكن مقصودهم التأكيد على أهمية النية، وبعضهم يقول أيضاً: "قول وعمل وتصديق" لأهمية التصديق، وبعضهم يقول: "قول وعمل وإخلاص" لأهمية الإخلاص، فهم لم يكونوا يلتزمون في تعاريفهم بالدقة المنطقية، إنما كانوا يعرفون الإيمان ويزيدون ما يرون أهميته، والأصل أن الإجماع عندهم منعقد على أن الإيمان هيئة مجتمعة من هذه الأربع؛ كما عبر شيخ الإسلام رحمه الله بذلك؛ فهو يعبر بالتعبير المتداول في عصره كما نعبر نحن بالتعبيرات المتداولة في عصرنا، فالإيمان هيئة مجتمعة من هذه الأربع.